29/10/2022 - 14:09

إدوارد سعيد المحاصر بالمعارك | ترجمة

إدوارد سعيد المحاصر بالمعارك | ترجمة

إدوارد سعيد (1935 - 2003).

 

العنوان الأصلي: The Embattled Edward Said.

المصدر: Jewish Currents.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة.

 


 

"الطريق أمامنا واضح المعالم"، كَتَبَ إدوارد سعيد (1935 - 2003) عام 1989، في «رسالة مفتوحة إلى مثقّفي أمريكا اليهود» الّتي لم ينشرها. "إمّا أن نقاتل من أجل العدالة والحقيقة، وحقّنا في النقد الصادق، أو، ببساطة، أن نتخلّى تمامًا عن صفة المثقّف". كان سعيد يردّ على ما رآه جائحةً من سوء النيّة لدى المثقّفين اليهود في أمريكا تجاه اضطهاد إسرائيل للفلسطينيّين. من خلال تقديمهم الدعم لإسرائيل عبر "تجريد الفلسطينيّين من إنسانيّتهم، وتجاهلهم، وبعد منتصف السبعينات… شيطنتهم أيضًا"، إذ جادل سعيد بأنّ هؤلاء المثقّفين "أدّوا دورًا حاسمًا" في توفير الغطاء الأيديولوجيّ لإسرائيل من أجل تدمير حياة الفلسطينيّين.

قرأت رسالة سعيد نهاية عام 1989 عندما كان يفكّر في نشرها من عدمه. كنّا صديقين حميمين منذ السبعينات، وكان سعيد مذهولًا أنّني، الأرمنيّ المصريّ، كنت مشاركًا في الحركة السياسيّة الفلسطينيّة في بيروت. أخذت حقّ نشر كتابه «الاستشراق»، باللغة العربيّة، ومعًا تعاونّا في العديد من الجهود الرامية إلى الوصول إلى العدالة من أجل الشعب الفلسطينيّ. فضّلت أن ينشر الرسالة، لكنّ أصدقاءً ومستشارين آخرين - الكاتب والمحرّر ذو العلاقات الاجتماعيّة والعمليّة الكثيرة جون ستاين، والباحث الأدبيّ ماسوا ميوشي، والمنظّر السياسيّ الباكستانيّ إقبال أحمد - كان لهم رأيّ آخر.

 

بروفيسور الإرهاب

تشير ملاحظات من يوميّاتي عن تلك الفترة إلى أنّ هؤلاء المفكّرين رأوا أنّ الرسالة لم تكن "بنّاءة بما يكفي"، وأنّها ستؤدّي إلى "تعريضه إلى حملة انتقادات واسعة". كانوا على حقّ، فلو أنّ سعيد نشر الرسالة كاملة، لملأ المثقّفون اليهود صفحات «ذا نيويورك تايمز»، و«وول ستريت جورنال»، و«ذا نيو ريبوبلك»، و«كومنتري»، و«ذا أتلانتك».

مع ذلك، فقد وجدت قلقهم في غير محلّه، فقد كان سعيد، الفلسطينيّ الأشهر والأهمّ في أمريكا، يتعرّض بالفعل للعديد من الهجمات من عدّة جهات. فقد كان الليبراليّون والصهاينة اليمينيّون على حدّ سواء، يمقتون مكانته بوصفه مثقّفًا وناقدًا تمكّن من تحدّي الصورة الّتي بَنوها للفلسطينيّين بوصفهم إرهابيّين يمكن تجاهلهم. فقد اعتبر الصهاينة الليبراليّون، أمثال المؤرّخ والتر لاكوير، كتاب سعيد «مسألة فلسطين» (1978)، مجرّد بروباغندا لا قيمة لها، وقد كان عمل سعيد الأهمّ باللغة الإنجليزيّة آنذاك، الّذي شرح فيه المشروع الاستعماريّ الإسرائيليّ من وجهة نظر فلسطينيّة.

خَشِيَ العديد من المثقّفين اليهود الأمريكيّين الانخراط في جدال فكريّ مع سعيد. إذ أخبرني سعيد في عدّة مناسبات أنّ روبرت سيلفرز، محرّر «مراجعات كتب نيويورك»، أخبره أنّه لن يستطيع السماح لسعيد بالنشر في المجلّة طالما ظلّ شقيق سيلفرز يعيش في القدس. بدلًا من مجادلة سعيد في حججه، شنّ هؤلاء المثقّفون حملة عاطفيّة تهدف إلى التشهير بسعيد والنيل من سمعته.

كَتَبَ سعيد رسالته بالأساس للردّ على مقالة فاضحة نشرها الناقد إدوارد ألكساندر في مجلّة «كومنتري» عام 1989 بعنوان «بروفيسور الإرهاب». كان أليكساندر، وهو يهوديّ أمريكيّ عاش عدّة سنوات في القدس، يتبع لحركة «حيروت»، حزب سياسيّ يمينيّ إسرائيليّ، اندمج في النهاية مع حزب الـ «ليكود»، كما أنّه كان عضوًا في مجموعة «أمريكيّين من أجل إسرائيل آمنة»، الّتي رفضت المفاوضات مع القيادة الفلسطينيّينة، ورأت في حلّ الدولتين خطرًا قاتلًا. في مقالته في «كومنتري»، وصف أليكساندر سعيد بأنّه "باحث أدبيّ ومنظّر للإرهاب"، و"قاتل مأجور يتبع «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»". ولا بدّ من ملاحظة أنْ لا أحد من الليبراليّين الصهاينة في أمريكا اختار أن يتبرّأ من اتّهامات أليكساندر غير المعقولة لسعيد، مع أنّ أليكساندر كان يمثّل مواقف اليمين المتطرّف.

 

استعادة فلسطين في المخيال الجمعيّ 

في ضوء هذه الاتّهامات، قد نعتقد أنّ سعيد كان معارضًا لأيّ تقارب مع إسرائيل. لكنّ العكس كان صحيحًا، فحتّى عام 1999، كان سعيد يجادل لصالح حلّ الدولتين باعتباره تنازلًا تاريخيًّا. الرسالة المفتوحة الّتي كان يفكّر في نشرها عام 1989 كُتِبَت بعد «الانتفاضة الأولى»، الانتفاضة الشعبيّة الّتي قادت «المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ» إلى تغيير سياسته تجاه إسرائيل. شارك سعيد في أعمال المجلس، وحاول، بعد الجلسة، أن يشرح لكلّ أذن مصغية جادّة اهتمام الفلسطينيّين في تحقيق السلام. يكتب سعيد في رسالته أن «المجلس الوطنيّ»، مدفوعًا من قبل قادة الانتفاضة الشعبيّة، اقترح "الاعتراف بإسرائيل، وتقسيم فلسطين الانتدابيّة إلى دولتين، والقبول بقراري «الأمم المتّحدة» رقم 242 و338، والتبرّؤ من الإرهاب، والالتزام الرسميّ بالعمل على إنهاء الصراع عبر المفاوضات السياسيّة، وليس عبر العنف". في الوقت نفسه، لا تتردّد رسالته الخوض في حجم ما تعرّض له الفلسطينيّيون على يد إسرائيل منذ عام 1948، والمجادلة بأنّ المؤسّسة النقديّة اليهوديّة الأمريكيّة اختارت إنكار هذا الاضطهاد من خلال "عمليّة تحقير مروّعة" ضدّ الفلسطينيّين.

كتب سعيد رسالته شاعرًا بإلحاح المناسبة. كان مشغولًا بمعركة ثقافيّة من أجل استعادة الفلسطينيّين، وإعادة تأطيرهم في المخيال الجمعيّ. إذ اعتقد أنّ عليه، وعلى زملائه، أن يكونوا على قدر المسؤوليّة من أجل مجابهة احتكار الخطاب الّذي مارسته المؤسّسة الصهيونيّة. ربّما، لو أنّه نشر رسالته، لكانت حصلت على بعض الدعم من قبل بعض المثقّفين اليهود – مثل عالم اللسانيّات والمفكّر السياسيّ المهمّ ناعوم تشومسكي، والاقتصاديّة السياسيّة سارة روي، والباحثان في الدراسات اليهوديّة دانييل وجوناثان بويرن، على سبيل المثال - حتّى لو أدانها آخرون. في سنوات لاحقة، التحقت بهذه الأرواح الشجاعة مجموعات جديدة من المثقّفين اليهود، أمثال طوني جودت، وجوديث بتلر، ولاحقًا بيتر بينارت، وأجيال جديدة من اليهود المستعدّين لتشريح وتفكيك ادّعاءات الخطاب الصهيونيّ المهيمن.

 

سعيد غير الفلسطينيّ

في السنوات اللاحقة على كتابة الرسالة، استمرّت الهجمات على سعيد بذات الوتيرة. في عام 1992، عندما حاولت «جامعة هارفارد» استقطاب سعيد، قام مارتن بيريتز، محرّر «ذا نيو ريبوبليك» حينها، بتوظيف مساعد بحث جامعيّ، ظنّ وقتها أنّه يبحث من أجل مقالة عاديّة، من أجل جمع  ملفّ بكتابات سعيد السياسيّة، قام بيريتز بإرساله إلى إدارة «هارفارد» في محاولة لمنع توظيف سعيد - وهو ما عَلِمَ سعيد به لاحقًا من مساعد البحث ذاته الّذي انزعج من حقيقة المهمّة الّتي أُوكِلَتْ إليه.

حتّى عام 1999، قبل بضعة سنوات من وفاة سعيد، دعت «مجلّة كومنتري» جستس وياينر، وهو محامٍ يهوديّ أمريكيّ عَمِلَ لصالح وزارة العدل الإسرائيليّة، للكتابة في المجلّة في محاولة للتشكيك في أصول سعيد الفلسطينيّة. قُبيل نشر مذكّرات سعيد «خارج المكان» عام 1999، نشر واينر مادّة عن سعيد بعنوان «بيتي القديم الجميل، وفبركات أخرى لإدوارد سعيد». قبل ذلك، كان واينر قد انتقد كتاب سعيد «مسألة فلسطين» بشدّة، لكنّه في مادّته هذه تمادى أكثر بكثير، مشكّكًا في أصول سعيد الفلسطينيّة - وهو أمر غريب خاصّة حين يأتي من أمريكيّ من بوسطن هاجر إلى إسرائيل.

تمامًا مثلما كانت جولدا مائير وقحة لدرجة إعلان أن الفلسطينيّين لم يوجدوا من قبل، ادّعة واينر - مثقّف يهوديّ أمريكيّ آخر عَمِلَ بشكل مباشر لصالح الحكومة الإسرائيليّة - أنّ سعيد لم يكن فلسطينيًّا حقًّا، وأنّ عائلته بالتالي لم تصبح لاجئة في حرب عام 1948. في الردّ على ادّعاء واينر، اختصر سعيد حجّة واينر هكذا: الفلسطينيّون كاذبون، لذلك فيجب ألّا يصدّق أحد "أولئك الفلّاحين الّذي هُجِّروا من أراضيهم"، وأنّ الحقيقة هي أنّ "كلّ تلك الأرض ملك لبني إسرائيل وحدهم، فقد أعطاها الله لهم". مع ذلك، أنهى سعيد ردّه بالتأكيد على التعايش السلميّ بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. في «مسألة فلسطين»، يشدّد سعيد على أنّ ماضي ومستقبل سكّان فلسطين، عربًا ويهودًا "يربطهم ببعضهم البعض ربطًا لا فكاك منه"، ويضيف أنّ هذا الرابط سيعود، في يوم من الأيّام بالخير على الإثنين.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

 

التعليقات